8- بطل في مستنقع الأذلاء!!
كان المجلس يضم معظم أمراء الجيش، وعلى رأسهم الأمير زين الدين الحافظي، وكان يضم أيضاً الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وهو من أمراء المماليك البحرية الذين فروا قبل ذلك من مصر أثناء فتنة دارت بين المماليك هناك، واستقبله الناصر يوسف، وضمه إلى قواده لما له من الكفاءة العسكرية العالية جداً، والقدرات القيادية الهائلة..
بدأ الاجتماع، وبدا واضحاً أيضاً أن الناصر يوسف لا يميل مطلقاً إلى الحرب، ولا يقوى على اللقاء، وكذلك أمراؤه، فبدأ معظم الحضور يتخاذلون، ويتحدثون عن الفجوة الهائلة بينهم وبين التتار، ثم انتقل الحديث إلى أمير الجيش الأمير زين الدين الحافظي فقام يعظم من شأن التتار، ويهون من شأن المسلمين، ويشير على الناصر يوسف ألا يقاتل..
هنا انتفض الأمير ركن الدين بيبرس، وكانت فيه حمية كبيرة للدين، وحماسة عالية للقضاء على التتار، ورغبة جارفة في المواجهة.. لكنه وجد نفسه في مجموعة من المتخاذلين والخونة..
صرخ الأمير ركن الدين بيبرس في وجه زين الدين الحافظي، ثم سبّه سبًّا عنيفاً، بل إنه لم يتمالك نفسه فقام وضربه، وقال له: أنت سبب هلاك المسلمين..
وطبعاً كلام "بيبرس" وإن كان موجهاً إلى زين الدين الحافظي إلا أن المقصود الأول من الكلام هو الناصر يوسف نفسه.. فهو من أهم أسباب هلاك المسلمين.. لكن بيبرس كان يخاطب مجموعة من الأموات.. والموتى لا يسمعون!.. فما وقعت كلماته في قلب أحد..
"إنك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصمَّ الدعاء إذا ولَّوا مُدبرين"
ومن ثَمَّ اتخذوا القرار المناسب في رأيهم..
والقرار............. هو الفرار !!!!!!!!!..
الأمير الناصر يوسف سيفر، والأمراء سيفرون، والجيش سيفر، وستبقى مدينة دمشق وشعبها الكبير دون حماية ولا دفاع!!..
وإنا لله وإنا إليه راجعون..
ولم يجد ركن الدين بيبرس حلاً مع هؤلاء فتوجه إلى غزة بفلسطين، وهناك راسل سلطان مصر ليذهب عنده على أمل التوحد في لقاء التتار.. وبالفعل استقبله سلطان مصر بحفاوة، وسنأتي لتفصيل ذلك مستقبلاً إن شاء الله..
وخلت دمشق من الأمراء والحراس..
ومدينة دمشق مدينة كبيرة وحصينة، وكان يتوقع لها الثبات فترة طويلة قبل أن تسقط، ولكن الأمراء من أمثال الناصر يوسف يأمرون بالمقاومة ويحضون عليها ما دامت بعيدة عن أرضهم، فإذا اقتربت جيوش العدو من مدينتهم كانت الخطة البديلة دائماً هي.. الفرار..
حدث ذلك في دمشق، ويحدث كثيراً إذا وجد أمثال هؤلاء الأمراء الأقزام..

تسليم "دمشق"!!
ووقع أهل دمشق في حيرة كبيرة.. ماذا يفعلون؟! جيوش التتار ستأتي إليهم في غضون أيام قليلة جداً.. والتتار لا يبقون على أخضر ولا يابس، وشعب دمشق لم يتدرب قبل ذلك على جهاد، وليست له دراية بفنون القتال، والجند المحترفون والأمراء القواد هربوا وتركوا مواقعهم..
لقد كان الموقف في غاية التردي..
وهنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يفعلوا مثلما فعل أهل "حماة"، فيأخذوا مفاتيح المدينة، ويسلموها إلى هولاكو، ثم يطلبوا الأمان منه، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين قرروا التحصن في قلعة دمشق، والدفاع حتى النهاية..
وصدق ظن هولاكو عندما أعطى الأمان الحقيقي لأهل حماة، فإن ذلك دفع غيرهم من أهل المدن الكبرى أن يفعلوا مثلهم..
وخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو، ويسلمه مفاتيح المدينة ومقاليد الحكم في دمشق..

موت "منكوخان"..
في هذه الأثناء حدث أمر لم يكن في حسبان هولاكو في هذا التوقيت.. لقد مات "منكوخان" زعيم دولة التتار، وجاءت الأخبار بذلك إلى هولاكو قبل أن يصل إلى دمشق، وبالطبع كانت هذه أزمة خطيرة، فمنكوخان يحكم دولة مهولة اتسعت في وقت قياسي، وحدوث أي اضطراب في الحكم قد يهدد هذه الدولة العظيمة بالتفكك، كما أن هولاكو - بلا شك ـ هو أحد المرشحين لحكم دولة التتار، فهو أخو منكوخان، وهو حفيد جنكيزخان، وله الانتصارات العظيمة الكثيرة، وله الفتوحات المبهرة.. ويكفيه فخرًا أنه أوَّل مَن أسقط الخلافة الإسلامية في التاريخ.. فكانت كل هذه المؤهلات تجعل هولاكو من أوائل المرشحين لحكم دولة التتار بكاملها، بدلاً من حكم منطقة الشرق الأوسط فقط..
لذلك لما وصل خبر وفاة منكوخان، لم يتردد هولاكو في أن يترك جيشه، ويسرع بالعودة إلى قراقورم عاصمة التتار للمشاركة في عملية اختيار خليفة منكوخان، وترك هولاكو على رأس جيشه أكبر قواده وأعظمهم "كتبغا نوين"، وهو كما ذكرنا قبل ذلك من التتار *******..
وأسرع هولاكو بالعودة، حتى إذا وصل إلى إقليم فارس جاءته الرسل من قراقورم بأنه قد تم اختيار أخيه "قوبيلاي" خاقاناً جديداً للتتار، ومع أن الأمر كان صدمة كبيرة لأحلام هولاكو، وكان على خلاف توقعاته، بل وعلى خلاف قواعد الحكم التي وضعها جنكيزخان قبل ذلك، إلا أنه تقبل الأمر بهدوء، وآثر أن يمكث في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وقد رأى الخيرات العظيمة في هذه المناطق، لكنه لم يرجع مرة أخرى إلى الشام، بل ذهب إلى تبريز (في إيران حالياً)، وجعلها مركزاً رئيسياً لإدارة كل هذه الأملاك الواسعة، وتبريز بالإضافة إلى حصانتها وجوها المعتدل، فإنها تتوسط المساحات الهائلة التي دخلت تحت حكم هولاكو حتى الآن، فهو يحكم بداية من أقاليم خوارزم والتي تضم كازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، ومروراً بإقليم فارس وأذربيجان، وانتهاء بأرض العراق وتركيا والشام.. والذي شجعه أكثر على عدم الرجوع إلى الشام هو أن ما تبقى في بلاد الشام يعتبر جزءاً بسيطاً ضعيفاً ليس فيه مدن كبيرة، لاسيما أنه قد سمع قبل رجوعه بفرار جيش الناصر يوسف الأيوبي في اتجاه الجنوب إلى فلسطين تاركاً وراءه دمشق دون حماية.. غير أن هولاكو لم ينس أن يرسل رسالة هامة إلى "كتبغا" يؤكد له فيها على ضرورة الإمساك بهذا المتمرد الصعلوك "الناصر يوسف الأيوبي"..
ونعود إلى دمشق...