1- الجهاد في سبيل الله
أما القيمة الثانية ـ بعد قيمة العلم والعلماء ـ التي كانت محفوظة في مصر فهي قيمة الجهاد في سبيل الله..
لقد كان المسلمون في مصر في تلك الآونة يؤمنون إيماناً عميقاً بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش.. ما سقطت قيمة الجهاد في سبيل الله حتى في أوقات الضعف، وحتى في أوقات الصراع على السلطة، وحتى في أوقات الأزمات الاقتصادية
وكانت الحملات الصليبية المتتالية على مصر والشام سبباً في بقاء هذا الشعور عند المسلمين في مصر، وعلموا أنه من المستحيل أن يكون هناك ما يسمى "بالسلام الدائم".. هذا أمر مستحيل فعلاً.. لأن من سنن الله عز وجل أن يظل الصراع دائراً إلى يوم القيامة بين أهل الحق وأهل الباطل.. وسيظل الحق موجوداً إلى يوم القيامة، وسيظل كذلك الباطل موجوداً إلى يوم القيامة، ولذلك فلن يقف الصراع أبداً إلا أن يتحول كل أهل الباطل إلى الحق، أو يتحول كل أهل الحق إلى الباطل، وهذا افتراض مستحيل، ولذلك فأكذوبة "السلام الدائم" هي أكذوبة ما يراد بها إلا خداع الشعوب وتسكينها وإبعادها عن الاستعداد الدائم للحرب..
لقد كان المسلمون في مصر في ذلك الوقت يعظمون جداً كلمة "الجهاد في سبيل الله"، ويربطونها دائماً بالله عز وجل، ولأن الجيوش الصليبية كانت دائماً أكثر عدداً من الجيوش المسلمة كانت الجيوش المسلمة شديدة الارتباط بربها عند المعارك، وشديدة التضرع إليه، وحريصة على توجيه النية كاملة لله عز وجل.. ولكل ذلك ما سقطت أبداً قيمة الجهاد في سبيل الله، وما وجد في ذلك الزمان من يسفه أمر الجهاد، أو يتهم من أراد الجهاد بأنه "إرهابي" أو "متطرف" أو "أصولي".. لم تكن كلمة الجهاد سبّة، إنما كانت فضلاً عظيماً، وهدفاً سامياً..
ولذلك كان الجيش المصري آنذاك مستعداً دائماً، حريصاً دائماً على استكمال كل أسباب القوة والإعداد وكان الجيش متفرغاً للتدريب العسكري، وتحديث السلاح، والتمرين على الخطط المختلفة للحروب، وإفراز القيادات الجديدة الماهرة، وحماية البلاد من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ونجدة المسلمين في البقاع المختلفة..
وشتان بين شعب رُبي على هذه المعاني، وشعب آخر رُبي على أنه لا بديل للسلام، وعلى أن خيار الحرب غير مطروح، وعلى أن الإستراتيجية الصحيحة هي المفاوضات والموائد المستديرة والمستطيلة، والمباحثات الهلامية، والاتفاقات الهزلية..

إذن.. كان الشعب في مصر في الأيام التي صعد فيها قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم على الرغم من أزماته الاقتصادية، وظروفه الصعبة، وفزعه من أخبار التتار، وفقدانه الثقة في كثير من زعمائه... كان شعباً واعياً فاهماً مقدراً لقيمة العلم والعلماء، ومحترماً لقيمة الجهاد في سبيل الله كوسيلة حتمية لحل الصراع مع الدول التي تغير على بلاد المسلمين..
وقطز رحمه الله ـ كما رأينا ـ كان واضعاً قضية التتار نصب عينيه من أول يوم حكم فيه البلاد، ورأينا كيف خطط قطز رحمه الله لتقوية جيشه، ولتدعيم الصف الداخلي في مصر، ولتحسين العلاقات الخارجية مع الأشقاء المسلمين، ولا شك أنه كان يحتاج إلى وقت طويل، ولكن كثيراً ما تُفرض المعارك على المسلمين فرضاً، فلا يجدون الوقت الكافي للإعداد والتمهيد...