1- قطز وخطوات التغيير
هكذا استلم سيف الدين قطز رحمه الله هذه التركة المثقلة بالهموم والمشاكل..
فكيف تصرف الملك المظفر قطز رحمه الله مع هذا الوضع شديد التأزم؟!
وما هي خطواته التي خطاها من أجل التغيير؟!
وما هو الإعداد الذي قام به لمواجهة الهجمة التترية الشرسة؟!!
1- التوحد أمام الأزمة:
الخطوة الأولى التي حرص عليها قطز رحمه الله هي استقرار الوضع الداخلي في مصر، وقطع أطماع الآخرين في كرسي الحكم الذي يجلس عليه؛ لأن الطامع في الكرسي لن تهدأ له نفس أو تستقر له حال حتى يجلس على الكرسي الذي يريد، فكيف تصرف في هذا الموقف رحمه الله؟!
إنه لم يقطع أطماعهم عن طريق التهديد والوعيد، فهذا - على العكس - يزيد الفتن اشتعالاً، ويؤجج نيران الحقد والحسد والغل، ولم يقطعها بالخداع والغش والمؤامرات والتحايل، ولكن قطز رحمه الله ارتفع "بأخلاق" المنافسين إلى درجة لم يتعودوا عليها في الفترة الأخيرة في مصر..
لقد جمع قطز رحمه الله الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وكل هؤلاء من المحركين الفعليين لطوائف الشعب المختلفة، وقال لهم في وضوح:
"إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا في السلطة من شئتم"..
فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك..
لقد حرص قطز رحمه الله على إبراز خطورة العدو القادم، وعلى إظهار الغاية النبيلة التي من أجلها صعد إلى كرسي الحكم..
وفوق ذلك فقطز يعلن بوضوح أنه سيجعل الأمر في الناس يختارون من يشاءون دون التقيد بعائلة معينة أو مماليك بذاتهم..
ولا يستقيم هنا أن نفعل مثلما يفعل المحللون الغربيون أو بعض المحللين المسلمين الذين يعتمدون في تحليلاتهم على المدارس الغربية في التحليل والنقد ويقولون: إنما قال قطز ذلك ليقمع المناوئين له، وليثبت نفسه في كرسيه مستغلاً حب المسلمين للجهاد.. ففوق أن إحسان الظن بالمؤمنين أمر مطلوب شرعاً، فإن الكلمات والأفعال تقيّم وتحسب دائماً في ضوء سيرة الشخص وحياته، وقد رأينا بعد ذلك سيرة قطز بعد أن تولى الملك، ورأينا سيرته في أثناء تحركاته إلى عين جالوت، ورأينا سيرته خلال موقعة عين جالوت وبعدها.. رأينا في كل ذلك ما يثبت أن كلامه كان صادقاً، وأن رغبته في قتال التتار والانتصار لهذا الدين كانت أعلى بكثير من رغبته في الملك..
وقد أجمع علماء الأمة على عدالته وفضله وتقواه..
وإذا كان من الممكن قبول عذر المستشرقين والمحللين الغربيين في أن قطز كان يقصد الملك وليس الجهاد لأنهم في سياستهم وحياتهم لا يرون إلا هذه الأمثلة، فإن عذر المحللين المسلمين غير مقبول، لأن هذا المثال المخلص الذي لا يريد شيئاً لنفسه، وإنما يهب حياته لربه ودينه وشعبه ولقضايا أمته.. هذا المثال الراقي كثير جداً في أمتنا، ومتكرر جداً في تاريخنا.. وسبق قطز رحمه الله على هذا الطريق كثيرٌ من أبطالنا، ولحق به آخرون كثير.. وسيظل الخير في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة..
ومع أن قطز رحمه الله قد استخدم الأخلاق العالية، والأهداف النبيلة في تجميع القواد والعلماء حوله، إلا أنه لم يتخل عن حزمه في الإدارة، وعن أخذه بأسباب السيطرة على الأمور.. فعزل الوزير "ابن بنت الأعز" المعروف بولائه الشديد لشجرة الدر، وولّى بدلاً منه وزيراً آخر يثق في ولائه وقدراته، وهو "زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع"، وفي ذات الوقت فإنه أقرّ قائد الجيش في مكانه وهو "فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي" (مع أنه من المماليك البحرية الصالحية( إلا أنه وجد فيه كفاءة عسكرية وقدرة قيادية وأمانة وصدق، وهي مؤهلات ضرورية لأي إمارة.. (وطبعاً "فارس الدين أقطاي الصغير" هذا غير "فارس الدين أقطاي" زعيم المماليك البحرية السابق، والذي قتل في سنة 652 هجرية قبل هذه الأحداث بست سنوات(..
وبذلك فإن قطز رحمه الله قد حفظ الأمانة، ووسد الأمر لأهله، وبصرف النظر عن كونهم من المماليك البحرية أو المعزية.. وهذا تجرد واضح من قطز رحمه الله.. كما أنه ذكاء سياسي واضح أيضاً.. فهو بهذا يستميل قلوب المماليك البحرية الذين فروا في أنحاء الشام وتركيا، ويبث الاطمئنان في نفوسهم، وهذا - ولا شك - سيؤدي إلى استقرار الأوضاع في مصر، كما أنه سيجعل البلاد تستفيد من الخبرات العسكرية الفذة للمماليك البحرية..
كما قام قطز أيضاً بالقبض على بعض رءوس الفتنة الذين حاولوا أن يخرجوا على سلطته وحكمه، وبذلك هدأت الأمور نسبياً في مصر..
وعلم قطز رحمه الله أن الناس إن لم يُشغلوا بالجهاد شُغلوا بأنفسهم، ولذلك فبمجرد أن اعتلى عرش مصر أمر وزيره زين الدين، وكذلك قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير أن يجهزا الجيش، ويعدا العدة، وينظما الصفوف.. فانشغل الناس بهذه الغاية النبيلة، والمهمة الخطيرة: "الجهاد في سبيل الله"..
إذن الخطوة الأولى في سياسة قطز رحمه الله كانت السيطرة على الوضع الداخلي للبلاد، وشغل الناس بالقضايا المجمعة للأمة، وإبراز الهدف الحقيقي من السلطان، وهو إقامة الشرع والدفاع عن البلاد، والقيام بشئون الرعية، وحماية مصالح العباد، وبذلك استقرت الأحوال المحلية في مصر، وتوحد الصف الداخلي، وهذه خطوة عظيمة جداً في بناء الأمم..
كانت تلك خطوة الملك المظفر الأولى وتعالوا لنرى سوية الخطوة الثانية
المفضلات