سلسلة قصص وعبر - التتار
بقلم د. راغب السرجانى

الحلقة السابعة الجزء الثاني - الإعداد لعين جالوت

رابط التحميل لمن أحب




قطز في المواجهة!
فبينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، جاءته رسل هولاكو يخبرونه أن اللقاء سيكون أسرع مما يتخيل، وأن الحرب على وشك الحدوث.. وبينما كان قطز رحمه الله في حاجة إلى بضعة شهور للإعداد إذا بالأيام تتسرب من بين يديه، والحرب مفروضة عليه، وما بين عشية وضحاها ستهجم الجحافل الهمجية على مصر، شاء قطز أم أبى، وشاء الجيش أم أبى، وشاء الشعب أم أبى، فالصراع سيكون قريباً، وقريباً جداً بين أي فئة مؤمنة، وبين أكبر قوة في الأرض إن كانت هذه القوة ظالمة، فالظالمون المتكبرون لا يقبلون أبداً بصديق ولا حليف ولا محايد، إنما فقط يريدون التابع، ولابد أن يكون التابع ذليلاً!!..
جاءت رسل هولاكو لعنه الله، وهي تحمل رسالة تقطر سماً، وتفيض تهديداً ووعيداً وإرهاباً.. لا يقوى على قراءتها إلا من ثبته الله عز وجل..
"ولولا أن ثبتناك، لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"..
وبفضل الله ثبّت الله عز وجل قطز، فقرأ الرسالة برباطة جأش عجيبة، وكذلك المؤمن الصادق، إذا خوّفه أحد الظالمين، استحضر هيبة الله تعالى، فهان عليه كل ظالم أو متكبر..
جاءت رسالة هولاكو مع أربعة من الرسل التتر.. وقرأ قطز رحمه الله فإذا فيها ما يلي:
"بسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلطنا على خلقه..
الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس "المماليك"..
صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها..
أنّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيظه..
فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر..
فاتعظوا بغيركم، وسلّموا إلينا أمركم..
قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ..
فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى..
فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد..
فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب..
فأي أرض تؤويكم؟ وأي بلاد تحميكم؟
وأي ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟
فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص
فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق..
وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال!
فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع!
لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن رد السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان..
فأبشروا بالمذلة والهوان
)فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تعملون) (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون(..
وقد ثبت أن نحن الكفرة وأنتم الفجرة..
وقد سلطنا عليكم من بيده الأمور المدبرة، والأحكام المقدرة..
فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلة ما لملوككم علينا من سبيل..
فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا رد الجواب..
قبل أن تضطرم الحرب نارها، وتوري شرارها..
فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كتاباً ولا حرزاً، إذ أزتكم رماحنا أزاً..
وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية..
فقد أنصفناكم، إذ أرسلنا إليكم، ومننا برسلنا عليكم"..
وانتهت الرسالة العجيبة التي خلت من أي نوع من أنواع الدبلوماسية، إنما كانت إعلاناً صريحاً بالحرب، أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولابد أن يكون التسليم مذلاً، بمعنى أنه دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق..
عقد قطز رحمه الله مجلساً استشارياً أعلى، وجمع كبار القادة والأمراء والوزراء، وبدءوا فوراً في مناقشة القضية الخطيرة التي طرحت أمامهم، والخيارات محدودة جداً، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط..
أما قطز رحمه الله فكانت القضية في ذهنه واضحة تمام الوضوح، إنه لم يطرح الخيارين على نفسه للتفكير، فخيار السلام ـ أو "الاستسلام" ـ في هذا الموقف غير وارد عنده أبداً، وهو يعلم تمام العلم أن الحقوق لا "توهب" بل "تؤخذ"، وأن الجيوش المعتدية لا " تُقنع" بالعودة إلى بلادها، بل "تُرغم" على العودة إلى بلادها..
هكذا كانت الرؤية في منتهى الوضوح عند قطز رحمه الله..
لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جداً من الفقه والفهم.. نعم لديهم حمية دينية عالية، ونعم يحبون الإسلام حباً جماً، ونعم على درجة راقية من الفروسية والمهارة القتالية، لكن الاختبار صعب جداً..
لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين إمكانيات التتار كدولة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وإمكانيات مصر التي مهما زادت فهي محدودة.. لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين أعداد التتار وأسلحة التتار، وأعداد المصريين وأسلحة المصريين، هذا فوق السمعة الرهيبة لجيوش التتار، وفوق الملايين المسلمة التي ذُبحت على أيدي التتار، بالإضافة إلى الجيوش الخوارزمية والأرمينية والكرجية والعباسية والأوروبية والشامية التي هُزِمت أمام جيوش التتار..
لقد شاعت في تلك الأزمان كلمة تناقلها العوام والخواص.. كانوا يقولون:
"إذا أخبرك أحد أن التتار يُهزمون فلا تصدقه!!"..
كل هذه التراكمات جعلت الأمراء يترددون في قبول ما رآه قطز رحمه الله أمراً واضحاً جداً لا تردد فيه.. وظهر عليهم الهلع والضعف والتثاقل إلى الأرض!
كيف يتصرف القائد الحكيم مع مثل هذا الموقف؟
كيف ينزع الخوف والرهبة من القلوب؟
كيف يقنع قادة جيشه بأمر يعتقدونه مستحيلاً؟!
تعالوا نتعلم من قطز رحمه الله..