سلسلة قصص وعبر - التتار
بقلم د. راغب السرجانى

الحلقة الحادية عشرة - وبعد ...

رابط التحميل لمن أحب




مقدمة
هذه قصة التتار..
وهذه قصة عين جالوت..
دورة طبيعية من دورات التاريخ..
فالتاريخ من طبيعته أن يصعد بأمة إلى أعلى الدرجات ثم يهوي بها إلى أسفل سافلين.. "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، صعد التتار ثم هبطوا، وهبط المسلمون ثم صعدوا، وسيكون بعد الصعود هبوط، وسيكون بعد الهبوط صعود... وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
وإنما نعرض التاريخ لا لمشاهدة الصعود والهبوط فقط.. ولكن لدراسة الأسباب التي أدّت إلى رفعة قوم وإلى ذلّة آخرين.. والتاريخ يتكرر بصورة عجيبة.. ومن قرأ التاريخ أضاف إلى خبراته خبرات السنين، وخبرات الأمم، وخبرات الزمان والمكان..
في هذه القصّة رأينا كيف تحول مسار التاريخ تماماً بظهور رجل معين، هو قطز رحمه الله كما تحول مسار التاريخ قبل ذلك تماماً أيضاً بظهور جنكيزخان لعنه الله.. وشتان بين الشخصيتين.. ولكنهما يجتمعان في أن كليهما مؤثر.. فكلاهما أثّر في الملايين.. كلاهما أثر في جغرافية الأرض.. كلاهما أثر في حركة التاريخ.. ولكن شتّان بين الأثرين.. أما الأثر الأول فقد استمد قوته من قوة الجسد والسلاح وشريعة الغاب.. وأما الأثر الثاني فقد استمد قوته من قوة الإيمان والروح وشريعة الإسلام..
من السهل جداً يا إخواني أن تدمِّر، ولكن من الصعب جداً أن تبني...
من السهل جداً أن تظلم، لكن من الصعب جداً أن تعدل..
من السهل جداً أن تغضب، لكن من الصعب جداً أن تعفو..
وهذه هي روعة الإسلام..
قطز إنسان، وجنكيزخان إنسان..
لكنَّ الأوّل جُمِّلَ بالإسلام، والثاني حُرِم الإسلام..
فتغيّرت حركة التاريخ تبعاً لذلك..
قطز بنى حضارة الإنسان واستحق أن يكون خليفةً في الأرض..
[إنى جاعل في الأرض خليفة]
وجنكيزخان هدم حضارة الإنسان واستحق بذلك أن يكون مسخاً ملعوناً..
"قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا "
وأمثال جنكيزخان في الأرض كثير.. وعلى عكس ذلك: أمثال قطز في الأرض قليل؛ لأنه كما ذكرنا: ما أسهلَ التدمير، وما أصعبَ البناء!!
[وإن تطع أكثر من في الأرض، يضلوك عن سبيل الله]
[وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين]
ومن المؤرخين من يشكك في أن التاريخ لا يُصنع بإنسان بعينه.. وأن الإنسان الفرد لا يقوى على تغيير المجتمعات.. وتغيير حركة التاريخ..
ولكن التاريخ نفسه يثبت عكس ذلك..
تغيّرت حركة التاريخ تماماً في أزمان كثيرة، وفي أماكن متعددة بظهور أشخاص بعينهم.. ولا أقول لك تغيرت بحياة رسول أو نبي فهذا واضح ومفهوم، ووجود الوحي والتوجيه الرباني المباشر يجعل المقارنة مع بقية فترات التاريخ مستحيلة.. لكن أقول لك تتغير حركة التاريخ بأشخاص معينة ليسوا أنبياء ولا رسلاً.. تغيرت حركة التاريخ بوجود رجل مثل أبى بكر الصديق، وراجعوا حروب الردة.. تغيرت حركة التاريخ بوجود رجل مثل عمر ابن الخطاب وراجعوا فتوح الإسلام.. تغيرت حركة التاريخ بظهور عمر بن عبد العزيز، وبظهور موسى بن نصير، وبظهور عبد الرحمن الداخل، وبظهور عبد الرحمن الناصر، وبظهور عماد الدين زنكي، وبظهور نور الدين محمود، وبظهور صلاح الدين الأيوبي، وبظهور قطز وبظهور عبد الله بن ياسين، وبظهور يوسف بن تاشفين، وبظهور محمد الفاتح.. وبظهور غيرهم.... رحمهم الله جميعاً..
نعم يظهرون على فترات متباعدة .. ولكن يمتد أثرهم إلى آماد بعيدة.
روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً"
ولكن هذه الراحلة إن وجدت، فيا سعادة أهل الأرض بوجودها!..
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها.
وقطز - ولا شك - كان من هؤلاء المجددين..
إن شئت فتحدث عن إيمانه وخشوعه، وإن شئت فتحدث عن زهده وعفافه، وإن شئت فتحدث عن كفاءته ومهارته، وإن شئت فتحدث عن صدقه وإخلاصه، وإن شئت فتحدث عن جهاده وتضحيته، وإن شئت فتحدث عن صبره ومصابرته، وإن شئت فتحدث عن حلمه وتواضعه..
لقد كان رجلاً مجدداً بمعنى الكلمة..
كان كما وصفه الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء حيث قال: "كان فارساً شجاعاً، سائساً، ديِّناً، محبباً إلى الرعية، هزم التتار، وطهّر الشام منهم يوم عين جالوت، ويَسْلَم له إن شاء الله جهادُه، وكان شاباً أشقر، وافر اللحية، تامّ الشكل، وله اليد البيضاء في جهاد التتار، فعوَّض الله شبابه بالجنة، ورضي عنه".
وكان كما وصفه ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: "كان شجاعاً بطلاً، كثيرَ الخير، ناصحاً للإسلام وأهلِه، وكان الناس يحبونه، ويدعون له كثيرًا".
ولَاحِظْ أن المؤرخين المسلمين يعلّقون دائماً على مسألة حب الناس للشخص، وحب الرعية للزعيم.. وهو مقياس دقيق من مقاييس العظمة الحقيقية.. فالصالحون من هذه الأمة لا يحبون إلا صالحاً.. ولا يبغضون إلا فاسداً.. ومن أجمع الصالحون على حبه فهو محبوب عند الله، ومن أجمع الصالحون على بغضه، فهو بغيض عند الله..
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إنى أحب فلاناً فأحبَّه.. قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه.. فيحبه أهل السماء. قال: ثم يُوضع له القَبول في الأرض. وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إنى أُبغض فلاناً فأبغضه، قال: فيُبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، قال: فيُبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض".
وهكذا يا إخواني نرى بوضوح في حركة التاريخ أن هناك رجالاً بأعينهم يغيرون فعلاً من مسار التاريخ.. ولكن مع وضوح هذا الأمر فإن العجيب أن الناس دائماً يبحثون عن هذا الرجل في خارج بيوتهم وشوارعهم ومدنهم.. يعتقدون أن هذا الرجل سيأتي من بعيد.. من بعيد جداً.. من بعيد في المكان، ومن بعيد في الزمان.. أو لعله يأتي من خارج الأرض!! لماذا لا يعدّ كل واحد منا نفسه وأهله وأبناءه وإخوانه ليكونوا هذا الرجل؟!
لماذا لا يكون قطز أنت؟!
لماذا لا يكون قطز ابنك؟!
لماذا لا يكون قطز أخاك؟!
لماذا ندرس التاريخ يا إخواني؟؟
ألسنا ندرسه لكي نسير على درب الصالحين ونتجنب دروب الفاسدين؟!
لماذا لا نسير على خطوات قطز رحمه الله الواضحة الثابتة لنصل إلى عين جالوت في زمان كثر فيه التتار وأشباه التتار؟
والله ما عاد لدينا عذر.. فقد أقيمت علينا الحجة!!!
[ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة]
تلك كانت قصة قطز رحمه الله..
ولكن بقيت في القصة مفاجأة!!
الفصل الأخير!!